مقالات دينية
شرح دعاء الصباح 7- القسم الثالث
(7) ﴿يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ﴾
فنصبهم مناراً في بلاده، وأعلاماً هداةً لعباده، وحُجَجاً على بريّته، وخُلَفاء على خليقته؛ ليُحِقّ الحقَّ بكلماته، ويُريَهم نفسَه في أعاظم أسمائه وأكابر آياته، وهم الأنبياء والأولياء (سلام الله عليهم أجمعين). وبالحقيقة هم العقول الكليّة في السّلسلة الصّعوديّة، بإزاء العقول الكليّة في السّلسلة النّزوليّة، وكما أنّ أُولئك العقول لانتفاء الإمكان الاستعدادي والحالة الانتظاريّة ـ وبالجملة، المادّة ولواحقها عنها واختفاء إمكانها الذّاتي تحت سطوع نور الأزل، فلم يُمكنه من البروز ـ كانت من صقع الرّبوبيّة باقية ببقاء الله، موجودة بوجود الله، كذلك هؤلاء العقول الصّاعدون لتخلّقهم بأخلاق الله، ونضوهم جلابيب الأبدان، وتمكّنهم في مقام خلع النواسيت([22]). وإلى كون هؤلاء العقول مكافئين لأولئك، يشير كلام الشيخ الإشراقي في حكمة الأشراق: «والكامل من المدبّرات، أي الأنوار الإسفهبديّة الإنسانية بعد المفارقة تلحق بالقواهر ـ أي بالعقول ـ فيزداد عدد القدّيسين، أي عدد العقول من الأنوار الكاملة المدّبرة إلى غير النّهاية»([23]).
وقال في موضع آخر في أنّ الاتّحاد الذي بين الأنوار المجرّدة إنّما هو الاتّحاد العقلي لا الجرمي: «وكما أنّ النّور الإسفهبد لمّا كان له تعلّقُ بالبرزخ، وكانت الصيصية مَظهره، فتوهّم أنّه فيها وإن لم يكن فيها. فالأنوار المدبّرة إذا فارقت من شدّة قربها من الأنوارِ القاهرة العالية ونورِ الأنوار وكثرةِ علاقتها العشقيّة معها، يتوهّم أنّها هي، فيصير الأنوار القاهرة العالية مَظاهر للمدبّرات، كما كانت الأبدان مظاهر لها قبل»([24]) انتهى.
وهذا سرّ بعض الشطحيّات الصّادرة من بعض العرفاء. والحاصل أنّهم عليهم السلام في العائدات، كالعقول في الباديات، بل هم أعلى منها، كما قال بعض أولاد ختمهم وسيّدهم: «وَرُوْحُ القدُسِ في جَنانِ الصّاقُورَةِ ذاقَ مِن حَدائِقِنا الباكُورَةَ»([25]).
وقال جبرئيل× ليلة المعراج: «لو دَنوتُ أنملَةً لاحتَرقْتُ»([26])، ونِعْمَ ما قال المولوي:
احمد ار بُگشايد آن پرّ جليل | تا أبد مدهوش ماند جبرئيل([27]) |
وقال الشّيخ العطّار:
چون به خلوت جشن سازد با خليل چون شود سيمرغ جانش آشكار | پر بسوزد در نگنجد جبرئيل موسى از وحشت شود موسيجه وار([28]) |
فمن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله، كما قال:
اى بسا كس را كه صُورت راه زد | قصد صُورت كرد وبر الله زد([29]) |
إن قلتَ: العقول مطلقاً لم تكن ذات الله تعالى، فكيف يكون فيما ذكرتم دلالة الذّات على الذّات؟
قلُتُ: أنّها وإن لم تكن ذات الله، لكنّها باقية ببقاء الله([30])، موجودة بوجود الله تعالى، لا بوجودات على حيال أنفسها، ولا نفسيّة لها؛ إنّما هي كالمعاني الحرفيّة غير مستقلّة بالمفهوميّة، كما قيل:
كُنّا حُروُفاً عاليات لَم نزرْ | مُتَعَلَّقات في ذُرا أعلَى القُللْ([31]) |
فهي مقام ظهور الأسماء الحُسنى للكنز المخفيّ المسمّى. والاسم عين المسمّى من وجه وغيره من وجه.
وأيضاً، دلالتها على ذات الله باعتبار حملها أعباء صفات الله تعالى، لا باعتبار نفس الحامل والمظهر المستهلك تحت أنوار الصّفات. فبالحقيقة صفاته دلّت على ذاته ولا حكم ولا دلالة لنفس الحامل؛ لأنّه لكمال رقّته ولطافته لا لون له في نفسه فانصبغ بصبغة صفات الله، كالماهيّة والهيولى المبهمتَيْن الفانيتين في الوجود والصّورة، وكالمرآة في عالم الشَّهادة([32]) حيث كانت فانيةً في الصُّوَر المرئيّة فيها، فلا يرى نفسها؛ إذ لا يمكن بروز الصّور فيها من بروزها. والصّفات وإن كانت بحسب المفهوم غير الذّات المتعالية، لكنّها بحسب الوجود عين الذات؛ فدلّ ذاته على ذاته، ثمّ على صفاته([33])، ثمّ صفاته على أفعاله.
وَرابِعُها: أنّ الشيء له وجُود عينيّ، ووجُود ذهنيّ، ووجُود لفظيّ، ووجُود كتبيّ. والوجود الذهني حسّي وخياليّ ووهميّ وعقليّ([34]). وجميع هذه الوجودات أطوار الشّيء وظهوراتُه، وذلك الشيء أصلُها المحفوظ، وسنخها الباقي. والأداني إذا جعلتْ آلات لحاظ الأعالي، فهي هي بوجه وليست هي هي بوجه.
فالوجود الكتبي كصورة زيد المكتوبة على لوح مثلاً، إذا جعل آلة لحاظ وجوده الذهني أو العيني لا يباينهما. كيف، ولو بايَنَهما لم يَسرِ أحكام نسبت إليه بالكتب من كونه حيّاً أو ميّتاً، أو صحيحاً أو مريضاً، أو غير ذلك إليه([35])، والتّالي باطل؟ وإذا كان هذا هكذا ـ والوجود الكتبي واللفظي أبعد من العيني؛ لاختلاف ماهيّاتها ولأنّ دلالتهما عليه بالوضع لا بالطبع ـ فما ظنّك بالوجود الذهني، إذا جعل آلة لحاظ الوجود العيني ولا سيّما في الصّور الذهنيّة المطابقة النفس الأمريَة بوجدان الحدود والرّسوم والوجود والبراهين.
وبالجملة، «ما هو» و«هل هو» و«لم هو» كما هو شأن الحكيم، فإنّ دلالته بالطّبع على الوجود العيني واشتراكهما في الماهيّة؛ إذ الأشياء تحصل بماهيّاتها في الذّهن، والذّاتي لا يختلف ولا يتخلّف؛ فالشمس الذهني إذا جعل مرآة لملاحظة الشمس العيني فهو هو بوجه، ويسري الأحكام منه إليه؛ وإذا أخذ مستقلّاً فليس هو هو، ولكلّ حكمه. وهذا أحد وجوه قولهم: «الاسم عين المسمّى»([36])، أي حتّى اللفظيّ والكتبي.
والحقّ عندنا أنّه هو هو بوجه، أي مأخوذاً «لا بشرط». وليس هو بوجه، أي مأخوذاً بـ«شرط لا»؛ ومن هنا يظهر سرّ احترام الأسماء المكتوبة لله وللنبي والأئمة^.
إذا عرفتَ هذا فنقول: الصّور العقليّة الّتي يجعلها العارف والعالم به والذاكر له عنواناتِ ذاته وصفاته، هي هي بوجه، وليست هي هي بوجه؛ فالمعرفة به بالعنوانات المطابقة معرفتهُ ومعرفة صفاته، ولا يستحقّ ولا يصحّ فيها السلب. وكذا تذكّر الذّاكر له بأسمائه الحُسنى اللّفظيّة، ومعانيها الشامخة الّتي تُرفع درجة الّذاكر بتدبّرها، تذكّراً بلا شائبة خلط وغلط. وذلك باعتبار الوجه الأوّل، وبضميمة أنّ كلّ مفهوم يصدق على نفسه بالحمل الأوّلي الّذاتي. ولا يسلب عن نفسه؛ فمفهوم الوجوب وجوب، ومفهوم الإمكان إمكان، ومفهوم الامتناع امتناع، وليس مفهوم الوجوب بذاته إمكاناً أو ممكناً، وقس عليه.
وما يقال: إنّه سبحانه لا يُكْتَنَهُ، ولا يحاط بالأدلّة العقليّة، وكذا النقليّة مثل قول مولانا باقر العلوم×: «كُلَّ ما مَيَّزتُمُوهُ بِأوهامِكم في أدَقِّ مَعانيهِ، فَهُوَ مَخلُوقٌ مِثلُكُم، مردوُدٌ إلَيكم»([37])، فذلك باعتبار الوجه الثاني، أي أخذ عنواناته الذهنيّة بـ«شرط لا»، وفقط ومعنونات، فإنّها حينئذٍ كيفيّات ذهنية مجعولات ذهنك، ومخترعات خاطرك، وممكنات بالحمل الشّائع بخلاف الوجه الأوّل، فإن الذّهن مستغرق في المسري إليه الحكم؛ فالشمسُ مثلاً الّذي في الذّهن عنوانٌ فانٍ في المُعنوَن الّذي هو الشّمس العيني، ولا وجود للعنوان بما هو عنوان بنفسه، فضلاً عن كونه كيفاً أو غيره. وهكذا في الشمس اللّفظي والكتبي إذا جعلا عنوانين للشّمس الذّهني، فالثلاثة ظهورات للشمس العيني وأطوار له، والوجود منفيّ عنها. فليست حينئذٍ كيفيّات مبصرة ومسموعة ونفسانيّة، بل جواهر بجوهريّته([38])، وموجودات بوجوده.
ثمّ إنّ الفرق بين البيان الثالث والرّابع مع اشتراكهما في بعض المبادئ ـ وهو اتّحاد الاسم والمسمّى بوجه ـ غير خفيّ؛ لأنّه أين الأسماء والأوصاف الذّهنيّة من الأسماء الوجوديّة الّتي ورد فيها عن الأئمّة^: «نَحنُ الأسماء الحُسنى الّذين لا يَقبَلُ الله عَمَلاً إلّا بِمَعرفَتِنا»([39])؟ وأين الوجوه والعنوانات الذّهنيّة؟ وأنّى وجهُ الله الّذي: ﴿أينَما تُوَلّوُا فَثَمَّ وَجهُ الله﴾([40])؟
_________________________________________
([22]) أي خلع الأبدان أوائله. وهي أن تكون بطريق الأحوال أن يكون للعقل انقطاعٌ عن الجزئيات واتّصال بالكليّات بنحو ملكة الاتّصال العلمي للعقل النظريّ. ومعلوم أنّ صاحب هذه الملكة عند الاتّصال كأنّه طارح للبدن، رافضٌ لأحكامه، وكأنّه يخلو من البدن. ومتى توجّه إلى أحكام البدن كأنّه يملأ منها. ولهذين الخلأ والملأ مراتب.
والتّمكّن في هذا المقام أن يكون في العقلين النظريّ والعمليّ ـ كليهما ـ بالفعل ويكون له الحرّيّة عن الأكوان ويتخلّق بأخلاق الرّوحانيّين، بل بأخلاق الله تعالى ويكون اتّصاله بحقيقة الوجود مقاماً وملكة له. وهذا معنى كون خلع البدن ملكة للمتألّه. منه.
([30]) يعني أنّها وإن كانت باعتبار جهة نقصها الإمكانيّ سوى الله، لكن سوائيّتها مستهلكة، ونقصها كقطرة مداد في بحر ماء عذب فرات لا نهاية له. وهو ظلّ الله، والظّل ظهور ذي الظّلّ، ولهذا قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾، ولم يقل: «إلى ظلّ ربّك» فهي فانية عن أنفسها، باقية بالله؛ فبالحقيقة دلّت ذات الله على ذات الله.
فانى از خويشم من وباقى به حق | شد لباس هستيم يكباره شق |
منه.
([32]) ومن هنا رجَّح الشيخ محيي الدين الأعرابي نظر مرآتيّة الأشياء له تعالى على نظر مرآتيته تعالى لها؛ فإن المرآة مستورة في المرئيّ من الصّور. فإذا جعلت الأشياء مرائي لله تعالى لم يظهر في نظر هذا النّاظر إلاّ هو لا هي.
وعندي: أنّه إذا أُريد بمرآتيته تعالى منيريّته ـ كما هي قوله: «أنرت دياجي الغسق» ـ وعالميّته وأنّ في نشأة علمه كلّ شيء، عكس الترجيح.
وإلى مرآتية الأشياء أشير بقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، وإلى مرآتيته تعالى أشير بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾. منه.
([33]) فإن حقيقة الوجود الدّالة على الوجوب تدلُّ على الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها؛ إذ مرجع حقائقها إلى الوجود الحقيقي. ويدلّ صفاته على أفعاله كوحدته وبساطته. ومبدعيته تدلّ على عالم الإبداع. وتماميّة وجوده العميم على دوام الفيض والتكوين إلى غير ذلك.
ولمّا رجعت حقائق الصّفات إلى الوجود، كانت مثله في كلّ بحسبه؛ ففي الأجسام ضعيفة كوجودها كما قال تعالى: (وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم)، بناء على قراءة (يفقهون) بياء الغيبة؛ وفي المجرّدات قويّة كوجودها.
والذي أراه دليلاً على أنّ الوجود في أيّة مرتبة كانت عين الصّفات، أنّ الوجود سنخ واحد، وكنوع فارد.
وفي النفوس النّاطقة التي هي أدنى المفارقات في الابتداء، وجودها عين علمها بذاتها؛ لأنّه حضوريّ، وعين إرادتها وعشقها لذاتها ولقواها وتوابع ذاتها، وعين حياتها وقدرتها على انبعاث القوى، وعين نوريّتها، وعين تكلّمها وناطقيّتها إلى غير ذلك. منه.
أحدهما، وجوده في العقل التفصيلي الذي يقال له «القلب» لوقوع التعاقب فيه.
وثانيهما، وجوده في العقل البسيط الخلّاق للتّفاصيل بقوّة أحسن الخالقين. وفيه السّماء والأرض والماء والنّار وغيرها من المتخالفات موجودة بوجود واحد، وهو كمقام تصالح الأضداد في الوجود، وكلّ واحد منها في العقل كما في الخيال سماء وأرض وغيرهما بالحقيقة لا بالمجاز، بل هي أحقّ بإطلاق أسمائها عليها ممّا في عالم الطبيعة؛ لأنّ ما في العالم محفوفٌ بعوارض أجانب وغرائب عنها، وممنوّ بأعدام وظلمات وسيلان ودثور، بخلاف ما في عقلك فإنّها حقائق الأشياء وصرفها وكذا ما في الخيال أدوم وأبسط ممّا في المادّة، إلاّ إنّ النّفس لمّا كانت شديدة الالتفات إلى الخارج، وجعلتها مرآة اللّحاظ لجزئيات ماديّة لا ملحوظات بالذات وحسبتها شيئات ماهيّات، تراءت مفهومات ضعيفة. منه.
([38]) مع كونها كيفيات في نظر آخر؛ ومن هذا ظهر معنى قولنا: «العقول الكليّة موجودة بوجود الله باقية ببقاء الله». واستصعب فهمه بعضٌ من العلماء وقال: «يلزم أن تكون هذه واجبة الوجود بالذات». والعجب أنّه لم يفهم هذا، وتصدّى للرّدّ على صدر المتألهين+ حيث يقول: إنّها باقيةٌ ببقاء الله لا بإبقائه، حيّة بحياة الله لا بإحيائه؛ لأنّها من صقع الرب، إنما الباقي بالإبقاء والحيّ بالإحياء ما سواها من الممكنات والموجودات الطبيعيّة، مع أنّ هذا شيء يقوله كثير من أهل النّظر والبحث فيما سواها؛ فإنّ من يقلْ: وجود الممكنات بالانتساب إلى وجود الله تعالى، وإنّ وجود زيد إله زيد، يقلْ: إنّها موجودة بوجود الله تعالى. منه.
شرح دعاء الصباح 7- القسم الثاني
(7) ﴿يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ﴾
[طريقة المتكلمين في إثبات الواجب تعالى]
ثمّ من الطّرق الأُخرى المشهورة الّتي نذكر بعضها إجمالاً حذراً من الملالِ
طريقةُ الحدوث للمتكلّمين: وهي أنّ العالم حادث للدّلائل الدالّة عليه، وكلّ حادث لابدّ له من مُحدِث غير حادث؛ دفعاً للدّور والتّسلسل، وهو الواجب تعالى. فعند المتكلّم، العالَمُ أي الماهيّات الإمكانيّة كأنّها أظهر، وكذا صفته التّي هي الحدوث، فرأى الماهيّات الّتي شأنها الاختفاء، وجَعَلَها مفروغاً عنها، وأخَذَها شيئاً موضوعاً مسلّماً، وأخَذَ الحدوث الّذي من صفات الخلق، ولم يعرف الوجود الحقيقيّ الّذي هو ظاهر بالذّات ومُظهِر لتلك الماهيّات وأحكامِها، ولا نظر إلى مفهوم الوجود الّذي ليس غريباً عن الحقّ تعالى، بل يطلق عليه وهو مصداقه([8])، والموضوعيّة والمفروغيّة والبيّنيّة مائيّة وهليّة حقّ الوجود؛ فلم يَعدِلوا ولم يضعوا الشيء موضعه.
[طريقة الحكماء في إثبات الواجب تعالى]
ومنها، طريقة الإمكان والماهيّة لبعض الحكماء: وهي أنّ الماهيّة الإمكانية الموجودة؛ الوجودُ والعدمُ بالنّسبة إلى ذاتها على السّواء، والمتساويان ما لم يترجّح أحدهما بمرجّح منفصل لم يقع. وذلك المرجّح إن كان ممكناً كان الكلام فيه كالكلام في الأوّل، حتّى ينتهي إلى مرجّح واجب بالّذات؛ دفعاً للدوّر والتسلسل.
[طريقة الطبيعيين في إثبات الواجب تعالى]
ومنها، طريقة الحركة للحكماء الطبيعيّين: وهي أنّ المتحرّك لابدّ له من محرك غيره؛ إذ المتحرّك لا يتحرّك عن نفسه. فذلك المحرّك ـ إن كان متحرّكاً ـ فالكلام فيه كالكلام في الأوّل حتّى ينتهي إلى محرّك غير متحرّك؛ دفعاً للدّور والّتسلسل وهو الواجب بالّذات. وقد يستدلّون عن متحرّك خاصّ كالفلك والنفس الناطقة.
والكلام في تفضيل الطريقة الحقّة على هاتين الطريقَتَيْنِ كالكلام في طريقة أهل الكلام. نعم، كما أشرنا أوّلاً، هذه أيضاً طرق إلى الله تعالى، لكن أين ضياء الشّمس من ضوء السِّراج؟!
وثانيها: أنّ العقل بأيّ دليل يستدل عليه ما لم يستودع من حول الله تعالى، ولم يستَعِرْ من قوّة الله، ولم يكتحلْ بنور الله سبحانه، لم يعرف شيئاً. ولله دَرُّ من قال:
إذا رامَ عاشِقُها نَظرَةً أعارَتْهُ طَرْفاً رآها بِهِ | وَلَم يَستَطِعْها فَمِنْ لُطِفها فَكانَ البصيرُ بِها طَرفُها([9]) |
وإلى هذا ينظر قول من قال في «الحمد لله»: يراد «بالحمد»، القدر المشترك بين المبنيّ للمفعول والمبني للفاعل، أي المحموديّة والحامديّة له. ومعلومٌ أنّه «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم». وهذا أحد وجوه قوله عليه السلام: «رَبِّ لا أُحصي ثَناءً عَلَيكَ»([10]). أي من حيث أنا أنا وأنت أنت. وظاهرٌ أنّه شرك خفي، وإثبات وجود مقابل([11])له، فكيف يكون التثنية ثناءً «أنت كَما أثنيتَ عَلى نَفسِكَ»([12]) أي نورٌ وارد منك يُثني عليك بحيث لا أكون في البين. وقيل:
بَيني وَبينَكَ إنّيٌّ يُنازِعُني | فَارْفَعْ بِلُطفِكَ إنّي من البينِ([13]) |
وقيل:
وسُئِل عارفٌ: «بِمَ عرفتَ ربّك؟» قال: «بِوارِداتٍ تَرِدُ على قلبي مِنْ عِنده»([15]). فبقوّة العقل من حيث هو عقل لا يمكن أن يتخطى إلى ما هو فوق عالم العقل والجسم، بل بقدرة مُستعارةٍ من فِنائه وبعين ناظرة مُستدانة من جنابه؛ لأنّ المُدرَك لابدّ أن يكون من سنخ المُدرِك([16]) وفي دُعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحُسين’: «لَولا أنتَ لم أدَرِ ما أنتَ»([17]). وعن العارف الكامل الشيخ عبد الله الأنصاري:
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِن واحِد توحيدُ من ينطِقُ عَن نَعِتهِ تَوحيدُهُ إيّاهُ([18]) تَوحيدُهُ | إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جاحِدٌ عارِيَةٌ أبطَلَهَا الواحدُ وَنَعتُ مَن يَنعَتُهُ لاحدُ([19]) |
وَثالِثُها: أنّ لله تعالى في نوع البشر مظاهر ومرائي هم المثل الأعلى له تعالى وبقيّة الله، وتذكرة الله كما قال|: «من رآني فَقدَ رأىَ الحَقَّ»([20])، وما أنسبَ بالمقام قول مهيار بن مرزويه الديلمي:
هَبي ليَ عَيني وَاحْمِلي كُلفَةَ الأسى أراك بِوجَهِ الشّمسِ وَالبُعدُ بيننا | عَلَى القَلبِ إنَّ القَلبَ أحملُ لِلبَلا فأقنعُ تشبيهاً بِها وَتَمَثُلا([21]) |
____________________________________________
([8]) أي مصداقه العرضيّ لا الذّاتيّ؛ فإنّ مفهوم الوجود ليس عيناً لحقيقة الوجود؛ لأن تلك الحقيقة عين أنّها في الأعيان. وهذا المفهوم ليس إلّا في الأذهان؛ ولهذا ليس [في النسخة الحجرية كلمة قريبة منها في الرسم، وليست هي] جزء لها أيضاً؛ وللزوم التّركيب في تلك الحقيقة البسيطة ولا ماهيّة مشتركة ولا هيولى مشتركة بينهما تصحّح الهوهويّة، فهو ليس إلاّ وجهاً من وجوهها وعنواناً عرضياً من عنواناتها؛ ولهذا يقال لهذا المفهوم: إنّه من المعقولات الثانية؛ لأن تلك الحقيقة البسيطة المبسوطة ليست فرداً ذاتيّاً له. منه.
([11]) فيلزم المحدوديّة في ناحية الحق، والاستقلال والغنى في التّحقق والظهور في جانب العبد، والحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة. وفي الحديث: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله». [المحاسن 1: 131/1، بصائر الدرجات: 100/1، بالإفراد، 375/4، 377/10، 11، الكافي1: 218/3]. و«العبودية جوهرة كنهها الرّبوبيّة» [التفسير الأصفي2: 1121، شجرة طوبى1: 33]. ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾. منه.
([15]) بحر المعارف2: 7، 23، وفيه أن السائل هو ابن سينا، والمجيب هو الشيخ أبو سعيد أبو الخير. ونصّ جوابه: بواردات ترد على القلب واللسان عاجز عن بيانها. تفسير حقي 13: 316، 14: 437، وفيه أنه السائل هو الرازي والمجيب هو الشيخ النجم الدين.
([16]) إن حسّيّاً فحسّ، وإن خياليّاً ـ أي مجرّداً برزخيّاً ـ فمجرّدّ برزخيّ، وإن مجرّداً عقليّاً فمجرّد عقليّ، وإن فوق العقل ففوق العقل، بل العاقل متّحد بالمعقول بالذّات، فالروح للطافته، إلى أي شيء يتوجّه يصير هو هو. منه.
([18]) أو توحيده بنور مستعار منه وبعين مستودعة منه. وبعبارة أُخرى: توحيده بالتّحقّق به توحيداً وجودياً بأن يصير وجود الموحّد منسلخاً عن الكثرة والتّشتت، ومعنى الكلّ واحد. منه.
([21]) جميع دواوين الشعر العربي على مر العصور 24: 77/ القصيدة: 60282، وفيه: «أصبر»، بدل: «أحمل» وهو الصحيح، لأن الفعل (حمل) لايشتق تفضيله على زنة أفعل.
حق الرعية بالعلم
من رسالة الحقوق
((وأما حق رعيتك بالعلم: فإن تعلم أن الله قد جعلك لهم خازنا فيما آتاك من العلم، وولاك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي إذا رأى حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه، كنت راشدا، وكنت لذلك آملا معتقداً، وإلا كنت له خائناً ولخلقه ظالماً وكان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك)).
المصدر: كتاب ائمتنا، علي محمد دخيل
شرح دعاء الصباح 7- القسم الأول
(7) ﴿يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ﴾
هذه كلمة عليّة صدرتْ من معدن الولاية، ومنبع المكاشفة. نعم، أمثال هذه الكلمات من مثل «كلمة الله العليا»([1]) و«الآية الكبرى»، عليّ العالي الأعلى، ليست بعزيزة. وبيانها مع ضيق المقام بوجوده:
[طريقة الإلهيين في إثبات الواجب تعالى]
أوَّلها: أنّ الطرق إلى الله تعالى وإن كانت كثيرة، بل بعدد أنفاس الخلائق؛ لأنّه تعالى ذو فضائل جمّة، وذو جهات نورانيّة لا تُعدُّ ولا تُحصى، لكن أشرف الطُّرق وأوثقها وأخصرها طريقة الحكماء([2]) الإلهييّن، بل المتألّهين الّذين يستشهدون به لا بغيره عليه. وهي طريقة الوجود والموجود من حيث هو موجود، وأمّا الطرق الأُخرى الّتي يستشهد فيها بغيره، فليست كذلك؛ فالطريقة الحقّة الإلهيّة بل التألهيّة أن يقال: الموجود إن كان واجباً فهو المطلوب، وإلّا استلزمه.
وتفصيلُهُ: إنّ الموجود من حيث هو موجود هو الوجود، لكن لا المفهوم العام البديهيّ الّذي هو حيثيّة طرد العدم والإباء، عنه، وجهة ترتّب الأثر، وهو معنون هذا المفهوم ومَحكيّ عنه به. وقد ثبت في الكتب الحكميّة والذّوقيّة التألهيّة أصالته، وأنّه حقيقة([3]) كلّ ذي حقيقة. وكما أنّ لمفهومه عموماً لا يكون شيء إلّا ويصدق هو عليه، كذلك لحقيقته سعةٌ لا يشذّ شيء عن حيطتها ولا ثاني لها. ولذلك لا سبب لها مطلقاً: لا سبب منه، ولا سبب عنه، ولا سبب فيه، ولا سبب به، ولا سبب له؛ لاستلزام وجودها لها الخلف.
وكما أنّ لمفهومه بداهةً، كذلك لحقيقته شدّةَ نوريّة وقوّةَ ظهور لا أظهر منها وهي الظاهر بذاتها، المُظهرة لغيرها؛ فَنَقُولُ: الوجُود الحقيقي إن كان واجباً فهو المطلوب، وإلّا استلزمه، لا لأنّه إذا لم يكن واجباً كان ممكناً فيلزم إمّا الدّور وإمّا التّسلسل أو المطلوب، بل لأنّه يلزم من الرّفع الّذي في النظرة الأُولى وهي حمقاء، الوضع في النظرة الثانية بلا مؤونة زائدة؛ لأنّ حقيقة الوجود لا يتطرّق إليها الإمكانُ بمعنى سلب الضّرورتين ولا بمعنى جواز الطرفين ولا بمعنى تساوي النسبتين بناءً على بطلان الأولويّة؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروريّ، وسلبه عن نفسه محال. ونسبة الشيء إلى نفسه كيف تساوى نسبة نقيضه إليه؟ ولا يتطرّق إليه الافتقار والتعلّق بوجود؛ لأنّ المفروضَ الحقيقةُ بقول مرسل، وكلّ حقيقة جامعةٌ لجميع ما هو من سنخها، عريّةٌ بذاتها عمّا هو من غرائبها، وغرائب الوجود ما هو من سنخ العدم. وبهذه الطريقة كما يثبت وجود واجب الوجود بالذّات يثبت توحيده.
فانظر أنّا لم نستدلّ في هذا المنهج القويم بغيره تعالى عليه؛ فإنّ الوجود الّذي نستدلّ به على الوجوب، ليس غريباً عنه، بل الوجود الحقيقي كاشف عن الوجوب الذّاتي، بل هو هو([4]) لأنّ الشيئية: إمّا شيئيّة وجود، وإمّا شيئيّة ماهيّة، ولا ثالث([5]). وشيئية الماهية حيثية ذاتها حيثية عدمِ الإباء عن الوجود والعدم، ولا تليق هذه بساحة عِزِّ مَنْ لا يحوم حولَه شيءٌ من أنحاء العدم ولو كان عدماً عقليّاً تعمّليّاً، فبقي شيئيّة الوُجود.
وانظر إلى شرافتها؛ لأنّ الوجود منبع كلّ شرافة، ومعدن كلّ إنافة.
وانظر إلى وثاقتها وأخصريتّها حيث لم نتمسّك فيها ببطلان التسلسل، ولا بأخذ حدوث العالم، ولا بغيرهما ممّا يتطرّق إليها المنوع ولو أثبتت المقدّمات الممنوعة ولكن يطول المسافة جدّاً، ولم ندَّعِ الوجود الّذي هو أبدَهُ وأظهر من كلّ شيء، فإنّ عنوانه أوّل الأوائل في الذّهن، يعرفه كلّ غبيّ وصبيّ، ومُعَنونُه أوّل الأوائل في الخارج، وهو الظاهر في كلّ شيء وفيء، ولم نُؤْثِر عليه الأخفياء، ولم نجعلها أوساطاً في البُرهان من الحدُوث والإمكان والحركة ونحوها ممّا جعلت في الطرق الأُخرى مفروغاً عنها، مع خفاء تحقّقها وتعقّلها إلّا بالاكتساب، وبتوسّط الوجود الخارجيّ والذّهني في العاقل والمعقول، في إبراز أحكامها.
ومن كلمات سيّد الشّهداء الحُسين بن عليّ بن أبي طالب’: «أَلغِيَرِكَ([6]) مِن الظُّهُورِ ما لَيسَ لَكَ حَتّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ؟ مَتى غِبْتَ حَتّى تحتاجَ إلى دَليل يَدُلُّ عَلَيكَ؟ أو مَتى بَعُدْتَ حَتّى تكَونَ الآثارُ هِيَ الَّتي تُوصِلُ إلَيكَ؟ عَمِيت عَينٌ لا تَراك ولا تَزالُ عَلَيها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفقَةُ عَبد لَم تَجعل لَهُ مِن حُبَّكَ نَصيباً»([7]).
______________________________________________
([2]) الفرق بين الطّريقتين: أنّ المتألهين يعتقدون أصالة الوجود، وأنّ الوجود العامّ البديهي عنوانٌ لحقيقة بسيطة مبسوطة نوريّة، ويقولون: إن كانت واجبة فهو المطلوب؛ فهم ناظرون إلى حقيقة الوجود. والإلهيّون ناظرون إلى مفهوم الوجود، وأنّ له فرداً واجب الوجود، وكونه من قبيل الاستدلال من ذاته على ذاته؛ لأنّ وجه الشيء هو الشيء بوجه. منه.
([3]) إذ من المحقّقات أنّ الماهيّة إذ اعتبر معها الوجود تصير ذاتاً وحقيقةً، فكيف لا يكون الموجود حقيقة، والماهيّة به تصير حقيقةٌ وبدونه ماهيّة؟! منه.
([4]) لأنّ الوجود الحقيقيّ ـ وهو حقيقة الوجود ـ حقيقة مرسلة يمتنع عليها العدم. والحقيقة المرسلة التي يمتنع عليها العدم واجبة الوجود؛ فحقيقة الوجود واجبة الوجود. فالوجود الحقيقيّ دليلٌ، والوجوب الذّاتي مدلول. وهذا لأنّ الأحكام تختلف باختلاف العنوانات كما في الحدود والمحدودات والأوساط والموضوعات في القياسات. وإنما قلنا: «يمتنع عليها العدم»؛ لأنّ القابل يجتمع مع المقبول، والمقابل لا يقبل المقابل؛ فالبياض لا يقبل السّواد ولا العكس، إنّما القرطاس يقبلهما على التّعاقب؛ ولهذا أثبتوا الهيولى؛ إذ الاتصال الحقيقيّ لا يقبل الانفصال ولا العكس؛ والصّورة النوعيّة المائية لا تقبل الهوائية، بل الهيولى؛ فالوجود لا يقبل العدم ولا العكس، بل الماهيّة هي القابلة المجتمعة معهما. منه.
([5]) إذ المقسم هو الشيء الموجود. وأمّا الشيء المطلق فيندرج فيه شيئية العدم، كما يقال: الشيء إمّا واجب الوجود، وإما ممكن الوجود، وإما ممتنع الوجود. وكما يقال: الشيء إما وجود، وإما عدم، وإما ماهية. منه.
([6]) غيره هو الممكنات، وهي شيئيات الماهيّات الإمكانية التي لا تأبى عن الوجود والعدم. وكما أنّ حيثية ذاتها خالية عن الوجود، كذلك خالية عن الظّهور والإظهار بخلاف حقيقة الوجود، فإنّها نور حقيقيّ حيثية ذاتها أنّها الظاهرة بالذّات، المظهرة للغير. وواجب الوجود تعالى حقيقة الوجود البحت ولا ماهيّة له، فلا حيثية خفاء فيه ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. منه.
([7]) الإقبال بالأعمال الحسنة: 660 (ط بيروت)، وفيه: «لغيرك»، وليس فيه: «لا تراك». بحار الأنوار 64: 142 ، 95: 226.
من وصايا الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله للإمام علي عليه السلام
يا علي: أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إليه إساءة، ورجل لا يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك، ورجلٌ وصلت قرابته فقطعها.
يا علي: سبع من كنّ فيه فقد استكمل حقيقة الإيمان، وأبواب الجنان مفتّحة له: من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته، وأدى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه، وأدى النصيحة لأهل بين نبيّه.
يا علي: لعن الله ثلاثة: أكل زادهُ وحده، وراكب الفلاة وحده، ونائمٌ في البيت وحده.
يا علي: ثلاث درجات، وثلاث كفارات، وثلاث مهلكات، وثلاث منجيات.
فأما الدرجات: فإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلى الجماعات.
فأما الدرجات: فإسباغ الوضوء في السبرات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والمشي بالليل والنهار إلى الجماعات.
وأما الكفارات: فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتهجّد بالليل والناس نيام.
وأما المهلكات: فشحّ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وأما المنجيات: فخوف الله في السرّ والعلانية، والقصدي الغناء والفقر، وكلمة العدل في الرضا والسخط.
يا علي: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله تعالى، ولا حسب كحسن الخلق، ولا عبادة مثل التفكّر.
شرح دعاء الصباح 6
(6) ﴿وَشَعْشَعَ ضِياءَ الشَّمسِ بِنُورِ تَأجُّجِهِ﴾
«الشعشع» و«الشعشاع» و«الشعشعان»: الطويل. فمعنى شعشع هنا: أطال ومدّ الضّياء، وهو الخطوط الشعاعيّة. و«التّأجّج». تلهّب النّار، كالأجيج. وفيه إيماء إلى تشبيه الشّمس بسراج لمحفل العالم على سبيل «الاستعارة بالكناية» و«التخييليّة»، قال تعالى: ﴿وَجَعَلنا الشّمسَ سِراجاً﴾([1]). وفي اصطلاح مأخوذ من الآية الشّريفة، وهي قوله تعالى: ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً﴾([2])، «الضياءُ» هو الضّوء الذّاتي، و«النّور» هو العارضي. فالمعنى: «شعشع» الضّياء الشمسي بنور مُودع([3]) في باطن ذلك الضياء من الله نورِ الأنوار، فإنّ النّور الحسّي رقيقة النّور الحقيقي المعنوي وآيته؛ أو «شعشع» من «شعْشَعْتُ الشّراب»، أي مزجتُه، كقوله:
يا ساقِ لا تُشعشعِ الرّاحَ بِما | فَهو يَكُفُّ عامِلاً مِن عَمَل([4]) |
أي مزج ضياء الشّمس القائم بجرمها بنور يحصل من تلهّب ذلك الضياء([5])، أو بنور الله الّذي كروح لتأجّج الشّمس وضيائها، وهو نور كلّ نور. ويمكن أن يرجع ضمير «تأجّجه» إلى «مَنْ» على سبيل الإضافة لأدنى ملابسة، كما أشرنا إليه. ومزجهُ حينئذٍ استهلاكُه تحت نور الله الواحد القهّار.
وقد يقال([6]) :«الضوء» فرع النّور. والنّور يطلق على ما للشيء في نفسه كالنّور القائم بنفس الشّمس، ويؤيّده إطلاق الإشراقييّن النّورَ على النّور الغنيّ، والعقول، والنّفوس.
ثمّ إنّه عليه السلام بعد ذكر الفلك أفرد ذكر الشمس لمزيد العناية به، فإنّه النيّر الأعظم وقلب العالم، سيّد الكواكب، آية نور الله القاهر؛ لقهره أنوار الكواكب الموجودة عند طلوعه، وهو فاعل النّهار، وجاعل الصّباح بإذن فالق الإصباح، وقدرة جاعل الظلمات والنور الفتّاح النفّاح.
وَميضٌ قدُسِيٌّ لِتأويل شَمسيّ
التأويل: أن يراد بالشّمس عقلُ الكلّ الّذي هو ضياءٌ لعالَم الجبروت، سراجٌ لِقُطّان ذلك النّادي وسُكّان ذلك المحفل، بل هو مصباحٌ أيضاً لعالم الملكوت ونبراسٌ لنشأة النّاسُوت؛ لأنّ النّفس الكليّة التي هي سراج عالم الملكوت خليفةُ عقل الكلّ، والخليفة بصفة المستخلف بل هو هو بوجه، وهو الشمس، وهي القمر. وهذا الشمس الّذي في عالم المُلك أيضاً ظلّ لذلك الشمس، والظلّ لا يباين([7]) ذا الظلّ من جميع الوجوه؛ فجميع العوالم والمجالي مُستضيئة بضيائه من الصدّر إلى السّاقة كما هو نور الله، وعلم اللّـه، وقدرة الله.
وفي الجمع بين الصّباح والليل والفلك والشمس «مراعاة النظير»، وبين التبلّج والظّلمة والغيهب «طباق»، وكذا بين النّطق والتلجلج «طباق» آخر.
وَلما بدَّلَ عليه السلام السّياق، وغيّر التّوصيف من نوع إلى نوع آخر، والتّعبير عن سجع إلى سجع آخر، أعاد× ذكر الموصوف جلّ شأنه، وأبرز حرف النّداء ثانياً فقال عليه السلام:
________________________________________
([3]) فالعارضيّة المعتبرة في مفهوم النّور كونه عارية ووديعة من الله تعالى شأنه «ولابدّ يوماً أن يردّ الودائع». فإضافة نور الوجود إلى الشّمس عارضيّة والعارض يزول وإن كان هو في نفسه أصلاً، وهي في نفسها عارضة «من وتو عارض ذات وجوديم». منه.
([5]) وذلك النّور شعاعها العارض للمستنيرات من سطوح الأجسام المقابلة لها، أو في حكم المقابل. والمراد من «نور الله» في المعطوف، نور الوجود أو نور ربّ طلسمه على طريقة الإشراقيين. منه.
([7]) أي لا يباينه بينونة عزلة، وإن باينه بينونة صفة، فالقمر الصّوري لا يباين الشّمس الصّوريّة وهي لا تباين المعنويين، أعني النفس الكليّة والعقل الكليّين، كما أنّ الكلّ لا يباين الحق بينونة عزلة. ونِعْمَ ما قيل:
گر چراغى نور شمعى را كشيد همچنين تا صد چراغ أز نقل شد | هر كه ديد او را يقين آن شمع ديد ديدن آخر لقاى اصل شد |
وفي طريقة الإشراق هذا أظهر؛ فإنّ النّور كلّه حقيقة واحدة بسيطة لا اختلاف فيه إلّا بالكمال والنّقص، ولا اختلاف نوعيّ بينها، عرضيّاً كان النور أو جوهريّاً، مدبّراً كان أو قاهراً. منه.
حب أهل البيت عليهم السلام
إعداد وتلخيص: هدى الميرزا
قال تعالی: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربی) (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور) الشورى: ٢٣.
ما أطيب الحديث عن أهل البيت، وما أجمل ذكرهم ومحبتهم.
يقول الفرزدق:
من معشـر حبهم فرض وبغضهـم *** كفر وقربـهم منجـى ومعتصـم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم *** ويستزاد به الإحسان والنعم
مقـدم بعـد ذكـر الله ذكرهـم *** في كـل بدء ومختـوم به الكلـم
إن عد أهل التقـى كانوا أئمتهـم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيـع جواد بعد غايتهم *** ولا يدانيهـم قـوم وإن كرمـوا
وبعد هذا، لا يمكن أن يقول إنسان بمحبة رسول الله (ص) دون محبة ومودة ومعزة أهل البيت الأطهار، والمحبة التي تُزعم في رسول الله دون محبتهم هي محبة ناقصة وزائفة لامعنی لها.
وقد جاء عن عبدالله بن مسعود قال: كنا مع النبي (ص) في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال: يامحمد. فقال له (ص): ماتشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم؟ فقال (ص): المرء مع من أحب. فقال: يا محمد اعرض علي الإسلام. فقال (ص): إشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت. فقال: يامحمد تأخذ علی هذا أجرا؟ فقال(ص): لا، إلا المودة في القربی. قال: قرباي أو قرباك؟ فقال(ص): بل قرباي. قال: هلم يدك حتی أبايعك، لا خير فيمن يودك ولا يود قرباك). بحار الأنوار: ٢٧،١٠٢، ٦٧. ولذلك قال الإمامية بأجمعهم أن المراد بالقربی هم: الأئمة الأطهار من أهل البيت(ع).
وهذا ما قال به جمع من المفسرين والمحدثين وأعلام المسلمين، كابن حنبل والطبراني والحاكم عن ابن عباس، كما نص عليه ابن حجر في الفصل الأول الباب الحادي عشر من كتابه الصواعق. قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يارسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: (علي وفاطمة وابناهما).
ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلامَ علی حبنا لأهل البيت (ع).
يقول شاعر الأولياء الشيخ علي عقل في دفع الملامة عنه في شدة تعلقه بآل البيت:
ومهما ألام علی حبهم *** فلست الفتی خائف اللائمه
فروحي علی بابهم ترتمي *** ونفسي بأعتابهم خادمه
إذا مس نفسي فتور المعاصي *** بذكرهم أصبحت هائمه
فيا عاذلي ثم يا عاذري *** سواء رضاك أو اللائمه
فقل ماتشاء وكن ما تشاء *** فإني أحب بني فاطمه
هذا وقد جاء في ذوي قربی رسول الله (ص) الكثير من النصوص والروايات، التي تدلل على أننا ينبغي أن نتمسك بهم (ع) حتى نحافظ على ديننا وعقيدتنا. وقد ورد: (أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى). قال المحب في هذين البيتين:
إن النبي هو النور الذي كشفت *** به عمايات باقينا وماضينا
ورهطه عصمة في ديننا ولهم *** فضل علينا وحق واجب فينا
ومن الروايات الواردة من طرقنا، عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله(ص): (من أحبنا أهل البيت فليحمد الله علی أول النعم). قيل: وما أول النعم؟ قال: (طيب الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته). بحار الأنوار ج27_ص145 الرواية 3 .
وعن أبي جعفر الباقر(ع) عن جده قال: قال رسول الله (ص): (حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط).
وعن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص) لو أن عبدا عبد الله ألف عام، ثم ذبح كما يذبح الكبش، ثم أتی الله ببغضنا أهل البيت، لرد الله عليه عمله).
قال الشاعر:
لو أن عبدا أتی بالصالحات غدا *** وود كل نبي مرسل وولي
وقام ما قام قواما بلا كسل *** وصام ما صام صواما بلا ملل
وطار في الجو لا يأوي إلی أحد *** وغاص في البحر مأمونا من البلل
ماكان ذلك بيوم الحشر نافعه *** إلا بحب أمير المؤمنين علي
وعن الإمام الباقر(ع) عن النبي (ص) قال: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتی يسأل عن أربع خصال: عن عمرك فيما أفنيته، و جسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت) بحار الأنوار ج27_ ص 103_ الرواية 70.
قال الشاعر المحب:
أحب النبي المصطفی وابن عمه *** عليا وسبطيه وفاطمة الزهرا
هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم *** وإني أری البغضاء في حقهم كفرا
عليهم سلام الله ما دام ذكرهم *** لدی الملأ الأعلی وأكرم بهم ذكرا
روايات من طرق غيرنا:
اخرج ابن حنبل والترمذي، كما في الصواعق: أنه (ص) أخذ بيد الحسنين وقال: (من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة).
قال الشافعي:
يا آل بيت رسول الله حبكم *** فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له
وجاء في مستدرك الصحيحين عن ابن عباس قال: نظر النبي (ص) إلی علي (ع) فقال: (أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي) فضائل الخمسة من الصحاح الستة _ج1_ ص 200
وأخرج الطبراني في الأوسط، والسيوطي في إحياء الميت، وابن حجر في صواعقه في باب الحث على حبهم: قال رسول الله (ص): (الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا).
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير، قال: قال رسول الله (ص): (ألا من مات علی حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات علی حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات علی حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات علی حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشَّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ومنكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزفُّ إلى الجنة كما تزف العروس إلى زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح الله له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله…).
***
اللهم اجمع قلوب المسلمين على محبتهم، ووحدنا على مودتهم، وعرف في مستقر رحمتك بيننا وبينهم، وأرحنا من قوم انتهجوا الحرب الطائفية وانصرنا عليهم، وعملوا على تأجيجها، وأثاروا الحروب الدموية والإعلامية، فسفكوا الدماء، وشردوا البشر، وسبوا النساء والأطفال، وباعوهم في سوق النخاسة، فمن يا ترى فعل ذلك غير من عادى محمدا وآله الأطهار، حتى لوكان يحمل شعار الإسلام، ويرفع راية المسلمين.
شرح دعاء الصباح 5- القسم الثالث
(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾
والطبيعة والنّفس المنطبعة لابدّ لهما من جسم تسري وتنطبع فيه وراء الأجسام الثمانية؛ لأنّها مَحالٌّ لطبائعها، ونفوسها المنطبعة فيها المخصّصات لحركاتها الخاصّة. ولا يمكن في الجسم البسيط الإبداعي حلول مبدأي ميلَيْن متضادَّين، ونفسين منطبعتين، فثبت جسم تاسع هو جسم الكلّ، وفلك الكلّ. وبإبطال المبادئ والقوى يؤول أمر تلك النفس الكليّة الّتي احتملها إلى العقل؛ هذا خلف هذا. وقس إتقان صفات الفلك الّتي لم نذكرها على الّتي ذكرناها.
و«التّبرّج» إظهار الزّينة كما في قوله تعالى ﴿وَلَاتَبرَّجْن تَبرُّجَ الجاهِليّةِ﴾([18]). وجميع ما ذكرنا ـ مع أنّه بالنّسبة إلى ما لم نذكر قليلٌ من كثير، وحقيرٌ من خطير ـ مقادير تزيين الفلك بعناية الحكيم العزيز القدير، قال تعالى: ﴿وَلَقد جَعَلْنا في السَماء بُرُوجاً وَزَيَّناها لِلنّاظِرينَ﴾([19])، وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَا السماء الدُّنيا بِمَصابيحَ﴾([20]). وكم من آيات كثيرة فيها تفخيمُ أمر السّماء وتبجيلُ شأنها!
نعم، هو مظهر ديمومة الله تعالى وفعاليّته وتربيته، وهو معدن ذكر الله والبيت المعمور بعبادة الله، كما قال×: «أطَّتِ السَّماءُ([21]) وَحَقٌّ لَها أنّ تئطّ؛ ما فيها مَوضعُ قَدَم إلّا وَفيه مَلَكُ راكِعٌ أو ساجِدٌ»([22]).
وفي ذكر «التبّرج» إيهامٌ؛ إذ له معنى قريب بمعونة إرداف الفلك، وهو كونه ذا برج، ومعنىً بعيد وهو ما مرّ، واُريدَ به البعيد. ولو قيل: إنّ المعنيَيْن متساويان في القُرب والبُعد، كان من باب محتمل الوجهَيْن المسّمى عند البديعييّن «بالتوجيه».
وبيان كون الفلك ذا بروج: أنّ منطقة فلك الثّوابت المسمّاة «بمنطقة البُروُج» لمّا كانت مقاطعة لمنطقة الفلك الأعظم المسمّاة «بمعدّل النّهار»، كانتا لا محالة متّحدتَيْن في نقطتين مسمّاتين بنقطتي: «غاية القرب»، وبنقطتي: «الاتّحاد»، وبنقطتي «الاعتدال». أحدهما: نقطة «الاعتدال الربيعي»، والأُخرى: نقطة «الاعتدال الخريفي». ومتباعدتَيْن أيضاً بنقطتَيْن، هما نقطتا: «غاية البعد»، ونقطتا: «الانقلاب». تسمّى أحدهما نقطة «الانقلاب الصّيفيّ»، والأُخرى، نقطة «الانقلاب الشَّتَويّ».
وبهذه النَّقاط الأربع انقسمت منطقة البُروج أرباعاً، ثم كلّ ربع انقسم بحسب القرب من غاية القرب، والقرب من غاية البعد، والتوسّط بين الغايتين إلى أقسام ثلاثة، والمجموع اثنا عشر قسماً. ثمّ اعتبروا ستّ دوائر عظيمة مارّة على النقاط الاثنتي عشرة، تمرّ كلٌّ من الدّوائر على قطبَيْ منطقة البروج. فجاء جميع الأفلاك بالسّطوح الوهمية النّفس الأمريّة للدّوائر السّتّ اثنتي عشرة حصّة، تسمّى كلّ حصّة بُرجاً طولُه ثلاثون درجة، وعُرْضُه مئة وثمانون درجة من القطب الجنوبي إلى القطب الشّمالي.
والبروج الّتي إذا كان الشمس فيها بحركتها الخاصّة كانت الشمس في شمال المعدّل، سُميّت: «شماليّة» والّتي إذا كانت فيها كانت في جنوبه سمّيت: «جنوبيّة».
إعلامٌ وَلَوِيٌّ لتأويل سماوِيًّ
اتقن صنُع فلك الولاية، فجعل لشمس الوصاية فيه اثني عشر برجاً هي الأئمة الاثنا عشر الذين هم عدد حروف «لا إله إلّا الله»([23])، وكذا عدد «محمد رسول الله»، ووجُود الإمام الهمام الثاني عشر (عليه وعلى آبائه السّلام) بمنزلة برج الحوت الّذي هو ثاني عشر بروج فلك عالم الظاهر([24]). ومن هنا ظهر سرّ ما ورد في الأخبار: «إنّ الأرض تقوم على الحوت»([25]).
وهنا تأويل آخر مأخوذ من حديث شريف هو: «إنَّ الله تعالى خَلَق اسماً بِالحرفِ غير مُصوَّت»([26]) الحديث، ذكرته في شرح الأسماء([27]) المعروفة بالجوشن الكبير عند شرح الاسم الشريف أعني: «يا من جعل في السّماء بروجاً»، من أراد، فليرجع إليه.
__________________________________________
([21]) إذ مبادئ الحركات والأشواق، ومبادئ الإدراكات سارية ومنطبعة في كلّ أجزائها وجزئيّاتها، ومن ورائها المفارقات المتعلّقة والمرسلة، والكلّ مسخّرات بيد الله تعالى.
ولركوعها وسجودها حقيقةٌ وصورة، فحقيقتهما إنقيادها وتسخّرها له. ورُبّ سجود وركوع صوريّ لا انقياد فيهما فليسا حقيقّيين. وأمّا صورتها، فلأنّ لكل معنى صورةً، ولكلّ حقيقة رقيقةً فلكل ملك حقيقةٌ ورقيقةٌ وروحٌ وشبحٌ، فذلك المعنى لمعنى الملك، وروحه وصورته لصورته؛ فلذلك المعنى تمثّل في عالم الصّور الصرفة بصور ملائكة راكعة وساجدة؛ فلا تهمل شيئاً من العالمين. منه.
([23]) اقتباس من الزّيارة الجوادية للحضرة الرّضويّة: «السّلام على… عدد حروف لا إله إلّا الله في الرّقوم المسطّرات». وفيها أيضاً: «بهم سكنت السواكن وتحرّكت المتحرّكات». ويوافقه ما في الزيارة الجامعة المعروفة [بحار الأنوار99: 55،54/ 11، باختلاف]. منه.
([25]) أي الأرض وسكّانها قائمة على وجود القائم الذي هو ثاني عشر بروج الولاية، كما أنّ برج الحوت ثاني عشر بروج الفلك. ووجوده× يقوم بالقيّوم تعالى شأنه، ولولا القائم «لساخت الأرض بأهلها» [الكافي1: 534/17، الاستنصار(الكراجكي): 8]. وكأنّه شمس واحدة سائرة في بروج الولاية، وقد ورد: أنّ الأئمة^ نور واحد [في الأمالي (الصدوق): 307/351 قوله‘: «خلقت أنا وعلي من نور واحد»]. منه.
شرح دعاء الصباح 5- القسم الثاني
(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾
وأمّا الصّفةُ، فلأنّ حركته أتمُّ الحركات وأقدمُها وأدومها:
أمّا إنّها أتمُّ؛ فلأنّ كلّ حركة هناك لا تقبل السّرعة والبطء والزّيادة والنّقصان كالّدائرة بخلاف الخطّ المستقيم مثلاً.
وأمّا إنّها أقدمُ؛ فلأنّها راسمةٌ للزّمان الذي لا يتقدّم عليه شيء تقدّماً زمانيّاً، والسّابق عليه هو الباري وأسماؤه.
وأمّا إنّها أدومُ؛ فلأنّها رابطة الحوادث إلى القديم، فلا تنقطع إلّا إذا انقطع الفيض، وفيض الله لا ينقطع، وسيبُه لا ينبتُّ، ونوره لا يأفل([10])، وقدرته لا تملّ ولا تكلّ. وأنّ وضعه أجدى الأشياء نفعاً وأكثرها أثراً، فإنّ الله سبحانه جعل الأمور الأرضيّة منوطةً بالأوضاع السّماويّة، وأوضاعُ ثوابته([11]) كلٌّ مع الآخر أدومُ الأوضاع وأثبتُها. وأنّ شكله أفضل الأشكال فإنّ الشكل الكرويّ أفضل الأشكال حيث إنّه ببساطته ووحدته يحاكي عالَم الوحدة والبساطة، وبعدم انتهاء سطحه ـ حيث إنّ نهاية السّطح هي الخطّ، ولا خطّ بالفعل في الكرة ـ يحاكي عدمَ نهاية علم الله وقدرته وكلماته. وباستواء نسبة مركز الكرة إلى جميع أقطارها، وكون كلّ([12])موضع من محيطها وسطاً، يحاكي استواءَ نسبة الرّحمن إلى الكلّ.
وأيضاً الشكل الكُرويّ أصونُ عن الفساد؛ ولذا كان الفاعلون بالصّناعة إذا قصدوا صيانة مصنوعاتهم عن الضّياع جعلوها كرات. قال تبارك وتعالى: ﴿وجَعَلْنا السَّماءَ سَقْفاً مَحفُوظاً﴾([13])، وقال: ﴿وَبَنَينا فَوقَكُم سَبعاً شِداداً﴾ ([14]).
وأنّ أينَه أعلَى الأيون؛ وأن كيفه ـ كميله([15]) وإرادته وعلمه ـ أجلّ الكيفيّات؛ وأنّ كمّه المتّصل أصحّ الكمّيات وأمثلها؛ إذ لا يسوغ عليه النّمو والذبول والتخلخل والتكاثف، بل كلّ فلك وفلكيّ إذا جعَلَها الجاعل الحقّ تعالى جعَلَها متقدّراً بمقداره الّلائق به؛ وأيضاً كمُّه أعظم الكمّيات. وكيف لا، وكثيرٌ من الكواكب أضعافُ أضعاف الأرض، فضلاً عن نفس الأفلاك؟ وأنّ كمَّه المنفصل أكملُ الكميّات المنفصلة، فإنّ عدد الأفلاك تسعة، والتسّعة أُصول العدد؛ ولذا كان الأرقام تسعة لا غير. والتسّعةُ عدد أرقام آدم هكذا 441، وجمع العدد من واحد إلى تسعة خمسة وأربعون وهو عدد آدم، وآدم هو النّوع الأخير الّذي هو كمال الأنواع، فالكامل للكامل.
وأمّا أنّ عدد الأفلاك تسعة لا أكثر ولا أقّل، فهو منهج التحقيق الحقيق بالتّصديق، وإن تفوّه بعض العلماء بغير ذلك.
أمّا في جانب الكثرة فربما ينسب إلى الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا أنّه احتمل أن يكون الثّوابت كلّاً في فلك، لكنّه باطلٌ؛ لأنّه إمّا أن يكون كلّ واحد منها متحركاً بذاته فيكون انقضاء حركة الكلِّ في زمان واحد، وهوخمسة وعشرون ألف سنة ومئتن على سبيل الاتّفاق، مع أنّه لا نظام في الاتفاقات. وكيف يتساوى الكلّ في الحركة وهي مختلفةٌ عظماً وصغراً لإحاطة بعضها ببعض، ومختلفةٌ نوعاً؛ إذ الأفلاك والفلكيّات لا يوجد فيها نوعٌ متّفق الأفراد، بل كلّ نوع منحصر في شخص، وإمّا أن يكون الكلّ متحرّكاً بالتّبع لفلك أعلى منها ولم يكن لذواتها حركةٌ بالذّات. وكيف يكون([16]) هذا، وما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذّات كما في حركات الأفلاك الثمانية من المشرق إلى المغرب بتبعيّة الفلك الأطلس؟
وأمّا في جانب القلّة، فقد احتمل المحقّق الطوسي+ أن تكون الأفلاك ثمانيةً، وتكون الحركة السّريعة بنفس تحرّكها هذه الحركة، وهذا أيضاً باطلٌ؛ إذ ليس لمجمُوع الثمانية وجودٌ آخر في الخارج وراء وجود كلّ واحد، فلا نفس أُخرى له وراء نفس كلّ واحد الّتي تُحرِّكُها الحركاتِ الخاصّةَ. وهل يكون لمجموع رجل وفرس وثور مثلاً نفس أُخرى وراء النفوس الثلاث المتعلّقة بها؟ وأيضاً كيف يُحرّك النفس الكليّة المجرّدةُ الجسمَ، والفاعل المباشر للتحريك مُطلقاً هو الطبيعة؟ والحركة الجزئيّة لا تستقيم([17]) بالتّصور الكلّي والإرادة الكليّة من دون مخصّص جزئي كتصوّر جزئي خياليّ، وشوق مخصوص منبعث من نفس منطبعة جزئيّة، وإلّا لزم التخصيص بلا مخصّص، فلم تتحقّق الحركة الجزئيّة.
_______________________________________________
([10]) فإنّ نوره في لسان الإشراقيّين هو الأنوار القاهرة مطلقاً، والأنوار الإسفهبديّة الفلكيّة والأرضيّة، وهي نوره الفعلي ولا أقول له؛ فكيف لنوره الذّاتي. والنور الإسفهبديّ الذي هو النّفس النّاطقة، قديم بالزّمان باعتبار ذاته وباطن ذاته عند الأفلاطونيين. وما ثبت قِدَمِه، امتنع عدمه. وفي الحديث: «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفَي عام». [المسائل المرؤية: 53، معاني الأخبار: 108/1، مناقب آل أبي طالب2: 179]. ولعلّ الألف رتْب طولي، لا زماني عرضيّ. وعندنا: نوره حقيقة الوجود الآبية عن العدم. ومن أسمائه الحسنى: «يا من له نور لا يطفا». وقال تعالى عن خليله: ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾، أي الكوكب آفل، وربّي ليس بآفل، فالكوكب ليس بربي. وفي الدّعاء: «يا نور كلّ نور، يا نوراً قبل كلّ نور، يا نوراً بعد كلّ نور، يا نوراً فوق كلّ نور، يا نوراً ليس كمثله نور». [المصباح (الكفعمي) : 253].
وقال العارف:
قرنها بر قرنها رفت اى همام شد مبدّل آب اين جو چند بار | وان معانى بر قرار و بر دوام عكس ماه وعكس اختر برقرار |
منه.
([11]) حتّى إنّها سمّيت «ثوابت»؛ لهذا، ولبطء حركتها بالنسبة إلى السيّارات. فالأفلاك والفلكيات بديمومتها وديمومة أوضاعها مظاهر دوام الله، وتذكر بألسنة وجوداتها: «يا دائم، يا قائم، يا حيّ، يا قيّوم» وغيرها من الأسماء الحسنى التي هي مجالي ظهورها. منه.
([12]) وأيضاً يحاكي بهذا خيريّة الوجود؛ لأن الوجود مطلقاً خير وحسن. ويحاكي حسن صنيع الله في كل وجود مجعول من حيث هو وجود مرقوم بقلمه الأعلى.
والوسط، هو الفاضل، كما قالوا: «خير الأمور أوسطها»، و﴿الصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ هي الأفضل منها. منه.
([16]) أي كون الكلّ متحركة الحركة البطيئة فلك أعلى محيط بالكلّ، ولم يكن لذواتها حركات خاصّة؛ إذ لا داعي إلى القول بالتعدّد حينئذٍ. والذي دعاهم إلى القول بتعدّد الأفلاك التسعة وجدانهم حركات مختلفة ذاتية؛ وأيضاً فصل الفلك المأخوذ في حدّه أنّه مبدأ ميل مستدير. والحركة المستديرة آبية عن السّكون بالذات، كما عن الحركة المستقيمة، والميل المستقيم. منه.
([17]) فإن المدرك للكلّي مجرّد، والمجرد نسبته إلى الجزئيات على السواء، فالإنسان إذا أراد الحجّ مثلاً فعاقلته يتصوّر الذّهاب الكلّي إليه، وينبعث منه الميل الكلّي، ولو تصوّر طريق البرّ أو البحر كان كليّاً أيضاً. وأمّا الذهاب الجزئي في وقت خاصّ ومسافة خاصّة وغيرهما، فيحتاج إلى قوى مدركة جزئيّة، ومحرّكة. جزئية يتصوّر الوقت الخاص والمسافة الخاصة وبلداً بلداً.(بلد بلد م) وخطوة خطوة، وينبعث منها ميول خاصّة، وتخيّل مرجّحات مخصوصة، ولولا القوى الجزئية ومدركاتها الجزئية، لم تتأتّ الحركات الجزئية من بين أمثالها وصنوفها. منه.
شرح دعاء الصباح 5- القسم الأول
(5) ﴿وَأتْقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوّارِ في مَقادِير تَبَرُّجِه﴾
إنّما سُمِّي الفلكُ فَلَكاً تشبيهاً بفلكة المغْزل في الدَّوَران، وفي أن يكون له المنطقة والمحور والقُطبان. والفُرسُ أيضاً سمّوه «آسمان» تشبيهاً له بالرّحى؛ لأنّ «آس» بلغتهم الرّحى، و«مان» كلمة التّشبيه.
والله سُبحانه أتقن صُنع الفلك ذاتاً وصفةً:
أمّا الذّاتُ؛ فلأنّ مادّته أقوى من المادّة العنصريّة، حيث إنّ مادة الفلك مخالفة بالنّوع لمادّة العناصر، بل المواد العشر للعوالم العشرة متخالفاتٌ بالنّوع، ونوعُ كلّ واحدة منها منحصر في شخص؛ فالمادّة العنصريّة لضعفها مشتركةٌ بين العناصر، والمواليد تخلع صورةً منها وتلبس أُخرى. والمادّة الفلكيّة لقوّتها يتأبى كلّ نوع منها عن قبول غير صورتها ولا تخلّى سبيلَها. وصورته أحكم الصّور؛ إذ لا تقبل الانقلابَ والكونَ من شيء، والفسادَ إلى شيء، وإن قبل الوجودَ الاختراعي والفناءَ المحض([1]) والطّمس الصّرفَ: ﴿كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ﴾([2])، ﴿وَالسَّمواتُ مَطوِيّاتٌ بِيَمينِهِ﴾([3]).
ولا تقبل القَسرَ والتّضادّ لتفسد بحلول الضدّ وطُرُوِّهِ في موقع الضدّ الآخر؛ ولذا لا شرَّ ولا ضرّ هناك، ولا تركيب فيها؛ حتّى تدخل تحت قاعدة «كلّ مركّب ينحلّ».
ونفوسُه أشرف النفوس الأرضيّة من حيث هي أرضيّة؛ لأنّ نفوس الأفلاك ملائكةٌ مشتاقون لقاء ربّهم الأعلى، ومن زمرة ﴿الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، كما أنّ عقولَها ملائكةٌ مقرّبون، عشّاقٌ إلهيّون، ومن زمرة ﴿الصَّافَّاتِ صَفًّا﴾. فليس الباعث على تحريك تلك النّفوس أمراً شهويّاً، أو غضبيّاً كجلب مُلائم بدنيّ، أو دفع مُنافر بدنيّ؛ لبراءتها عنهما، فوجودُ الشهوة والغضب فيها معطَلٌ عبث؛ ولا نفعَ السّوافل بالذّات؛ إذ لا التفات للعالي إلى السّافل بالذّات، فتحريكُها لأجل أمر عقلّي عظيمِ الخطر جليلِ الشّأن، وهو التخلّقُ بأخلاق الملائكة المقرّبين من العقول التسعة، كما أنّ غرض النفوس القدسيّة الناطقة المستكمِلة الأرضيّة في حركاتها العلميّة والعمليّة هو التخلّقُ بأخلاق روح القدس من العقل العاشر.
والعقول لما كانت من صقع الرّبوبيّة، وأحكام السّوائيّة من المادّة ولواحقها ـ ولو كانت المادّة بمعنى المتعلّق، فيها مستهلكةٌ([4])؛ لأنّها قدرة الله ومشيّة الله، وكالمعنى الحرفي بالنّسبة إليه ـ كانت النفوس الفلكيّة في الحقيقة عشّاقاً لله، راجين لقاءه، متواجدين في عشق جماله وجلاله؛ هذا بلسان؛ ونُسّاكاً إلهيّين وعُبّاداً ربّانيّين حول كعبة وصاله، هذا بلسان آخر. قال المعلّم الثاني: «صلّت السّماء بَدوَرانها، والأرضُ بَرجَجانها، والماءُ بسَيَلانه، والمطرُ بَهطَلانه، وقد يصلّى له ولا يشعر: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾([5])»([6]).
وفي كون الأفلاك ذوات نفوس قولان:
أحدهما: أنّ لكلّ كرة في فلك نفساً.
وثانيهما: أنّ النّفس للفلك الكلّي، والأفلاكُ الجزئيّة والكوكبُ فيه كالآلات. وما يقال: إنّه يستفاد من بعض الأخبار أنّه لا حياة للأفلاك، وأنّها كالجمادات، فليس كذلك. ولو دلّ بظاهره لكان فيه إشارةٌ إلى أنّها بمقتضى التّوحيد حياتُها مُستهلكةٌ([7]) في حياة الله تعالى، كما أنّ إرادتَها مُستهلكةٌ في إرادته، وفعلَها في فعله، وأحكامُ الظاهر غالبةٌ على أحكام المظهر بخلاف العنصريّات، فينعكس الحكم هاهنا إلّا أنْ تشابه الفلك والمَلَك، فالحكم الحكم. وكفى في ذلك قولُ سيّد السّاجدين وزين الموحّدين علي بن الحسين× مخاطباً للهِلال: «السَّلامُ عَلَيكَ أيَّهُأ الخَلقُ المُطيعُ الدّائبُ في فَلَكِ التّقَدِيرِ»([8]). ونِعْمَ ما قيل:
از مَلَك نُه فلك چو گردانست عرش وكرسى وجِرمهاى كُرات خنفسا ومگس حِمار قَبان | مَلَك اندر تن فلك جان است كمترند از بهايم وحشرات؟! همه با جان ومهر ومه بيجان؟!([9]) |
_______________________________________________
([1]) إذ في القيامة الكبرى يتلاشى ويضمحلّ وجودات الكلّ تحت وجود الواحد القهّار، ويعود الوجود إلى الله، ويسقط إضافة الوجود إليها، فيقبض حياة الملك حتّى «إسرافيل» و«جبرائيل» و«عزرائيل» وغيرهم فضلاً عن الفلك، كما يعود وجود كلّ القوى والمدارك بعد خراب البدن إلى النّفس النّاطقة، فإنّ النفس أصلها وبدوّها، كما أنها غايتها ومرجعها. منه.
([4]) ومن الحجب العظيمة: المكان والزّمان، وملزومه الذي هو الحركة، وهي مناط الغيريّة والسّوائيّة بحيث عرّف فيثاغورس الحركة بالغيريّة؛ اذ يؤكد غيريّة الحوادت الكائنة مع عالم العقل الذي هو حاقّ نفس الأمر. وكلّ هذه مرتفعة عن عالم العقل، فكلّ من العقول كأنّه يقول: «من رآني فقد رأى الله» كما قال ذلك سيّد العقول الكليّة في السّلسلة الصّعوديّة بخلاف الممكنات بالإمكان الاستعدادي، المتحجبة المشوبة بالتباعد المكاني، والتّمادي الزماني، والطبع السّيلاني، والوغول الهيولاني؛ فانّها من صقع الموادّ، وأحكام السّوائية عليها غالبة، سيّما إن قلنا بتجرّد عالم العقل عن الماهيّة، وانّ إمكانها مجرّد الفقر إلى الله تعالى. منه.
([7]) فليس لها إلاّ مجلويّة حياة الله وإرادته وقدرته، اذ لا إرادة لها مخالفة لإرادته، ولا مشيّة لها غير مشيّته: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾، وأمرُ الله تعالى إرادته، ونهيه كراهته، وكذا إرادته أمره التكويني؛ إذ لها درجات. منه.